فصل: الجملة الأولى فيما هو بحاضرتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثامن في ترتيب مكة المشرفة:

وفيه جملتان:

.الجملة الأولى فيما هو بحاضرتها:

أما معاملاتها فعلى ما تقدم في الديار المصرية والبلاد الشامية من المعاملة بالدنانير والدراهم النقرة، وصنجتها في ذلك كصنجة الديار المصرية، ويعبر عن الدرهم النقرة فيها بالكاملي؛ نسبةً إلى الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب صاحب مصر، وعندهم درهم آخر من فضة خالصة، مربع الشكل، زنته نحو نصف، ثم نقص حتى صار نحو سدس، يعبرون عنه بالمسعودي نسبة إلى الملك المسعود صاحب اليمن، وهو في المعاملة بثلثي درهم كاملي.
ولم يكن بها في الزمن المتقدم فلوس يتعامل بها ثم راجت الفلوس الجدد بها في أيام الموسم فيما قبل الدولة الظاهرية برقوق. ثم راجت في سائر الأوقات آخراً، إلا أن كل درهم بها ثمانية وأربعون فلساً على الضعف من الديار المصرية، حيث كل درهم فيها أربعة وعشرون فلساً؛ ويعبر عن كل خمسة قراريط من الدرهم الكاملي فيها بجائز، وعن الربع والسدس منه بجائزين، وتعتبر أوزانها بالمن: وهو مائتان وستون درهماً. وأواقيه عشرة، كل أوقية عشرة دراهم؛ وكيلها بالغرارة وكل غرارة من غرائرها.... وقياس قماشها بالذراع المصري وأسعارها في الغالب مرتفعة عن سعر مصر والشام.
وأما إمرتها فإنها إمرة أعرابية يمشي أميرها في غمرته على قاعدة أمراء العرب دون عادة الملوك في المواكب وغيرها، وأتباعه عرب، وأكثرهم من بني الحسن أشراف مكة، ويعبر عن أكابرهم بالقواد، وهم بمثابة الأمراء للملوك، وربما استخدم المماليك الترك ومن في معناهم.
وأكثر متحصله مما يؤخذ من التجار الواردين إلى مكة من الهند واليمن وغيرهما. وأما تجهيز ركب الحجيج إليها ففي كل سنة يجهز إليها المحمل من الديار المصرية بكسوة البيت مع أمير الركب ويكسى البيت بالكسوة المجهزة مع المحمل، ويأخذ سدنة البيت الكسوة التي كانت على البيت، فيهادون بها الملوك وأشراف الناس، وداخل البيت كسوة أخرى من حرير منقوش لا يحتاج إلى التغيير إلا في السنين المتطأولة لعدم وصول الشمس ولمس الأيدي إليها.
ومن عادة أمير مكة أنه إذا وصل المحمل إلى ظاهر مكة خرج لملاقاته، فإذا وافاه ترجل عن فرسه وأتى الجمل الحامل للمحمل فقلب خف يده اليمنى وقبله خدمةً لصاحب مصر، وقد روى ابن النجار في تاريخ المدينة النبوية من طريق الحافظ أبي نعيم إلى حسين بن مصعب أنه أدرك كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة فتنتشر على الرضراض في مؤخر المسجد، ثم يخرج بها إلى مكة. وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين ومائة.
واعلم أن كسوة الكعبة لها حالان: الحال الأولى ما كان الأمر عليه في الجاهلية. قد روى الأزرقي في أخبار مكة بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن سب أسعد الحميري وهو تبعٌ، وكان أول من كسا الكعبة كسوةً كاملة تبعٌ وهو أسعد أري في منامه أن يكسوها فكساها الأنطاع، ثم أري أن اكسها فكساها الوصائل ثيابٌ حبرة من عصب اليمن؛ وعن ابن جريح نحوه.
وعن ابن أبي مليكة أنه قال: بلغني أن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسىً شتى، كانت البدن تجلل الحبر والبرود والأكسية وغير ذلك من عصب اليمن، وكان يهدي للكعبة هدايا من كسىً شتى سوى جلال البدن: حبر وخزٌ وأنماط فتكسى منه الكعبة، ويجعل ما بقي في خزانة الكعبة، فإذا بلي منها شيء أخلف عليها مكانه ثوب آخر، ولا ينزع مما عليها شيء.
وعن عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها، من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر فيها فأثرى في المال، فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة وحدي سنةً وجميع قريش سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات: يأتي بالحبر الجندية من الجند فيكسو الكعبة، فسمته قريش العدل لأنه عدل فعله بفعل قريش.
وروى الواقدي عن النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت رضي الله عنه أنها قالت: رأيت قبل أن ألد زيد بن ثابت على الكعبة مطارف خز أخضر وأصفر، وكرار وأكسية الأعراب وشقاق شعر.
وعن ابن جريج أن الكعبة فيما مضى إنما كانت تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج، حتى كان بنو هاشم فكانوا يعلقون القميص يوم التروية من الديباج لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالاً فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار.
وعن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم قال: نذرت أمي بدنةً تنحرها عند البيت وجللتها شقتين من شعر ووبر فنحرت البدنة وسيرت للكعبة بالشقتين والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة لم يهاجر، فنظرت إلى البيت يومئذ وعليه كسىً شتى من وصائل وأنطاع وكرارٍ وخز ونمارق عراقية، كل هذا قد رأيته عليه.
قلت: حاصل الأمر أن الذي كسيته الكعبة الأنطاع وحبرات اليمن والبرود والكرار والأنماط والنمارق ومطارف الخز الأخضر والأصفر والأكسية وشقاق الشعر والوبر وغير ذلك.
الحال الثانية ما كان الأمر عليه في صدر الإسلام وهلم جرا إلى زماننا.
سأما في صدر الإسلام فقد روى الواقدي عن إبراهيم بن أبي حبيبة عن أبيه أن البيت كان في الجاهلية سيكسى الأنطاع فكساه النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية ثم كساه عمر وعثمان رضي الله عنهما القباطي. وعن ابن أبي نجيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطي من بيت المال، كان يكتب فيها إلى مصر، ثم عثمان من بعده. فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي وكسوة ديباج. وكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان.
وروى الأزرقي عن نافع قال: كان ابن عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي والحبر، وفي رواية الأنماط، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها وإذا كان يوم النحر نزعها عنها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان الحجبي فناطها على الكعبة.
وروى الواقدي عن إسحاق بن عبد الله أن الناس كانوا ينذرون كسوة الكعبة ويهدون إليها البدن عليها الحبرات، فيبعث بالحبرات إلى البيت كسوة. فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني، فلما كان ابن الزبير اتبعه على ذلك، فكان يبعث إلى أخيه مصعب بن الزبير يبعث بالكسوة كل سنة وكانت تكسى يوم عاشوراء.
قال الأزرقي: وقد قيل إن ابن الزبير أول من كساه الديباج. قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: وهو الصحيح.
وذكر الواقدي عن أشياخه أن عبد الملك بن مروان كان يبعث في كل سنة بالديباج من الشام فيمر به على المدينة فينشر يوماً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين هاهنا وهاهنا، ثم يطوى ويبعث به إلى مكة. وقد قيل إن عبد الملك أول من كسا الكعبة الديباج. قال الماوردي: وكساه بنو أمية في بعض أيامهم الحلل التي كانت على أهل نجران في جزيتهم، والديباج من فوقها.
قال الأزرقي: ولما حج المهدي في سنة ستين ومائتين، رفع إليه أن ثياب الكعبة قد أثقلتها ويخاف على جدرانها من ثقل الكسوة، فجردها حتى لم يبق عليها شيء من الكسوة، ثم افرغ عليها ثلاث كسىً: قباطي وخز وديباج. ولما غلب حسين بن حسن الطالبي على مكة في سنة مائتين، وجد ثيابها قد ثقلت عليها أيضاً فجردها في أول يوم من المحرم وكساها كسوتين من قز رقيق إحداهما صفراء والأخرى بيضاء مكتوب بينهما: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار. أمر أبو السرايا الأصغر بن الأصغر راعية آل محمد صلوات الله عليه وسلامه بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام.
وذكر الأزرقي عن جده أن الكعبة كانت تكسى في كل سنة كسوة ديباج يعني أحمر وكسوة قباطي. فأما الديباج فتكساه يوم التروية، فيعلق القميص ويدلى ولا يخاط، وإذا صدر الناس من منى خيط القميص وترك الإزار حتى يذهب الحاج لئلا يخرقوه. فإذا كان يوم عاشوراء علق عليها الغزار يوصل بالقميص؛ وكأن المراد بالإزار ما تدركه الأيدي في الطواف وبالقميص ما فوق ذلك إلى أعلى الكعبة، فلا تزال هذه الكسوة الديباج عليها حتى يوم سبع وعشرين من شهر رمضان فتكسى القباطي القطن.
فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن الديباج يبلى ويتخرق قبل أن يبلغ الفطر، فسأل المأمون صاحب بريد مكة في أي الكسوة الكعبة أحسن؟ فقال له: في البياض، فأمر بكسوة من ديباج أبيض، عملت سنة ست ومائتين وبعث بها إلى الكعبة، فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسى: تكسى الديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وتكسى الديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من شهر رمضان للفطر.
ثم رفع إلى المأمون أيضاً أن إزار الديباج الأبيض يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحاج قبل أن يخاط عليها غزار الديباج الأحمر في عاشوراء، فزادها إزار ديباج أبيض تكساه يوم التروية، فيستر بهما تخرقمن الإزار الذي كسيته.
ثم رفع إلى المتوكل في سنة أربعين ومائتين أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس ومسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار الأول، فأذال قميصها الديباج الأحمر وأسبله حتى بلغ الأرض، ثم جعل الإزار فوقه، في كل شهرين إزار، ثم نظر الجبة فإذا الإزار الثاني لا يحتاج إليه، فوضع في تأبوت الكعبة وكتبوا إلى المتوكل أن إزاراً واحداً مع ما أذيل من قميصها، فصار يبعث بإزار واحد فتكسى بعد ثلاثة أشهر، فيكون الذيل ثلاثة اشهر.
ثم في سنة ثلاث وأربعين ومائتين أمر المتوكل بإذالة القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكسوة. قال الماوردي: ثم كسا المتوكل أساطينه الديباج.
وقد حكى المؤيد صاحب حماة في تاريخه أن الفاطميين خلفاء مصر في إمارة أبي الحسن جعفر من السليمانيين على مكة في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة كسوا الكعبة البياض.
قلت: ثم رفع الأمر في خلفاء بني العباس ببغداد إلى شعارهم من السواد، فألبسوا الكعبة الديباج الأسود؛ ثم جرى ملوك مصر عند استيلائهم على الحجاز على إلباسها السواد.
والذي جرى عليه الحال في زماننا إلى آخر الدولة الظاهرية برقوق وأوائل الدولة الناصرية ولده أن الكعبة تكسى الديباج الأسود كسوة مسبلة من أعلى الكعبة إلى أسفلها مرقوماً بأعاليها طراز رقم بالبياض من أصل النسج مكتوب فيه: {إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً} الآيات، وعلى الباب برقع من نسبة ذلك مرقوم فيه بالبياض......... ثم في سنة......... وثمانمائة في الدولة الناصرية فرج بن برقوق غير الطراز من لون البياض إلى لون الصفرة، فصار الرقم في السواد بحرير أصفر مقصب بالذهب، ولا يخفى أنه انفس من الأول والثاني أبهج منه لشدة مضادة ما بين البياض والسواد، ثم جعل بعض جوانب الكسوة ديباجاً أسود على العادة، وبعضها كمخاً أسود بجامات مرقوم فيها بالبياض: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم جعل بعد ذلك برقع البيت من حرير أسود منشوراً عليه المخايش الفضة الملبسة بالذهب فزاد نفاسة وعلا قيمة. ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة جعل واجهة الباب من الكسوة كمخاً أزرق بجامات مكتوب فيها...... والله العالم ما كان وما يكون.
قلت: وحاصل ما تقدم أن الذي اشتملت عليه أصناف الكسوة في الإسلام الثياب اليمانية، والقباطي المصرية، والحبر والأنماط والحلل النجرانية، والديباج الأبيض، والديباج الأحمر، والديباج الأخضر، والديباج الأصفر، والديباج الأسود، والديباج الأزرق.
وأما تجريد الكعبة من ثيابها، فقد ذكر الأزرقي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزع كسوة الكبيت في كل سنة فيقسمها على الحاج.
وعن ابن أبي مليكة أنه قال: كانت على الكعبة كسىً كثيرةٌ من كسوة أهل الجاهلية: من الأنطاع والأكسية والكرار والأنماط، فكانت ركاماً بعضها فوق بعض. فلما كسيت في الإسلام من بيت المال، كان يخفف عنها الشيء بعد الشيء إلى أن كانت أيام معاوية فكتب إليه شيبة بن عثمان الحجبي يرغب إليه في تخفيفها من كسى الجاهلية حتى لا يكون عليها شيء مما مسته أيديهم لنجاستهم، فكتب إليه معاوية أن جردها، وبعث إليه بكسوة من ديباج وقباطي وحبرة، فجردها شيبة حتى لم يبق عليها شيءٌ، وكساها الكسوة التي بعث بها معاوية، وقسم الثياب التي كانت عليها بين أهل مكة؛ وكان ابن عباس حاضراً في المسجد وهم يجردونها فلم ينكر ذلك ولا كرهه.
وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على شيبة ذلك، وقالت له بعها واجعل ثمنها في سبيل الله، وكذلك ابن عباس.
وروى الواقدي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: إذا نزعت من الكعبة ثيابها فلا يضرها من لبسها من الناس من حائض أو جنب. وقد تقدم أن المهدي جردها حين حج في سنة ستين ومائتين؛ وحسينٌ الطالبي جردها في سنة مائتين.
قلت: والذي استقر عليه الحال في زماننا أنها لا تلبس في كل سنة غير كسوة واحدة على ما تقدم بيانه، وذلك أن الكسوة تعمل بمصر على النمط المتقدم، ثم تحمل صحبة الركب إلى مكة فيقطع ذيل الكسوة القديمة على قدر قامة من جدار الكعبة ويظهر من الجدار ما كان تحته، ويبقى أعلاها معلقاً حتى يكون يوم............... فتخلع الكسوة العتيقة وتعلق الجديدة مكانها، ويكسى المقام من نسبة كسوة الكعبة، ويأخذ بنو شيبة الحجبة الكسوة العتيقة فيهدونها للحجاج ولأهل الآفاق. وقد زاد رفدهم فيها من حين حصلت المغالاة في كسوة الكعبة وبرقعها على ما تقدم. اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً، وتكريماً ومهابة.
واعلم أن جدار الكعبة كان عزيز الرؤية حين كانت الكسوة تتراكم عليها ولا يجرد عنها شيءٌ، حتى إن الأزرقي حكى عن جده أنه تبجح برؤية جدارها حين جردت في سنة ثلاث وستين ومائتين، وأنه رأى جدار الباب المسدود الذي كان عمله ابن الزبير في ظهرها وسده الحجاج، وشبه لون جدارها بالعنبر الأشهب.